من المجلة - ملف العدد

«قمة المستقبل»:
آفاق التغير وتحديات الواقع

طباعة
تتجه الأنظار, فى سبتمبر من كل عام, إلى مقر الأمم المتحدة فى نيويورك فى افتتاح أعمال دورة جديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وسيتابع المجتمع الدولى بترقب هذا العام «قمة المستقبل The Summit of the Future» التى قررت الدول الأعضاء عقدها بناء على مبادرة السكرتير العام أنطونيو جوتيريش فى تقريره التاريخى «أجندتنا المشتركة» بمناسبة مرور ٧٥ عاما على إنشاء المنظمة, وما رآه السكرتير العام بعين صادقة وشخّصه دون خجل من أوجه عجز وقصور وتحديات جمّة فى المنظومة الدولية المتعددة الأطراف، وما أعلنه بعزيمة شجاعة من أن الأمم المتحدة تواجه أزمة وجودية، وأنه إما الإصلاح الآن أو الانفجار  Reform or Rupture.
وقد انخرطت الدبلوماسية المصرية ذات الباع المعروف والرصيد الواسع بالمحافل الدولية فى مسار «قمة المستقبل» منذ بدايته، وتستمر بعثاتنا بالعواصم المتعددة الأطراف، لا سيما بعثتنا الدائمة فى نيويورك فى دورها النشط لتوجيه دفة مجموعات الدول النامية كمجموعة الـ ٧٧ + الصين وحركة عدم الانحياز والمجموعات الإفريقية والعربية، كما نبنى الجسور مع الشركاء من الدول المتقدمة خلال العملية التفاوضية الموسعة التى تجرى بالأمم المتحدة لاعتماد «ميثاق المستقبل Pact for the Future» المنتظر صدوره عن «قمة المستقبل» بُغية تطوير العمل المتعدد الأطراف عبر حزمة من الإجراءات التحويلية فى خمسة مجالات رئيسية:
(أ) التنمية المستدامة وتمويل التنمية.
(ب) السلم والأمن الدوليين.
(ج) العلم والتكنولوجيا والابتكار والتعاون الرقمى.
(د) الشباب والأجيال المقبلة.
(هـ) تحويل الحوكمة الدولية، فضلا عن ملحقين للميثاق مخصصين للتحديات الناشئة، هما «إعلان الأجيال المقبلة» و«الميثاق الرقمى العالمى».
إن الحقيقة التى لا تغيب عن المتابع المُدقق، هى أن مبادرات تطوير وإصلاح الأمم المتحدة والمنظومة المتعددة الأطراف حديث تتكرر حلقاته باختلاف الظروف والحقب والتوازنات. فالواقع الدولى الذى أحاط بالأمم المتحدة التى أُنشئت عام ١٩٤٥ يختلف إلى حد بعيد عن الواقع الذى يحيط بها حاليا، وعن نظيره بعد عشرين عاما مما نعرفه اليوم. فالأصل الثابت فى التفاعلات الدولية هو التغير المستمر والحركة النشطة، وكثيرا ما كانت مصر فى طليعة دول الجنوب النامية المُدركة لوقائع الأمور وخفايا التجاذبات وتفاصيل النقاشات، فكنا، وما زلنا، وسنظل صوتا واضحا وقوة دافعة باتجاه منظومة دولية أكثر عدلا وإنصافا استجابة لتطلعات السواد الأعظم من شعوب العالم. فمن الحتمى إخراج أدوات وآليات الحوكمة من الحيز الضيق المقصور على عدد من القوى الكبرى، ليس لأسباب أخلاقية ومعنوية فحسب، بل لاحتياج واقعى وحاجة مُلحة، إذ لم نعد فى عصر تستطيع فيه بضع دول السيطرة وحدها على مقاليد الأمور. ومن دون إشراك الجميع فى عملية صناعة القرار ومراعاة المصلحة العالمية العامة، لن يستطيع أى طرف تأمين مصالحه منفردا.
إذا كانت «قمة المستقبل» محطة مهمة على مسار تطوير المنظومة الدولية المتعددة الأطراف، والأمم المتحدة فى القلب منها، فإن خصوصية القمة تكمن فى توقيتها والظروف المحيطة بها. فالمنظومة الدولية القائمة أثبتت عجزها وتحتاج إلى إعادة إحياء لتكون ذات وقع وتأثير لدى رجل الشارع، سواء فى الدول النامية أو المتقدمة. ولم يعد كافيا التذرع بأن المنظومة تواجه تحديات جمّة، فالإصلاح قد أصبح مترادفا لمجرد استمرار المنظومة أو استحداث آليات جديدة.
إن العمل الدولى بلا مظلة أممية جامعة وأُطر قانونية حاكمة سيُفضى إلى فوضى وتناحر القوى بلا أية ضوابط أو قواعد، ما يعود بالضرر على الجميع، ولن يكون فى المقدور مجابهة تحديات عالمية مُركّبة ومتشعبة ذات طبيعة عابرة للحدود، على غرار تغير المناخ ومكافحة الإرهاب والأمن السيبرانى وحوكمة الفضاء ومنع سباق التسلح فيه، وغيرها من القضايا، إلا عبر تعزيز التعاون الدولى. فتحديات عالمنا اليوم لا ترتبط بدولة دون سواها أو منطقة دون الأخرى، ولا يمكن مواجهتها إلا عبر إجراءات جماعية عادلة منسقة على المستوى الدولى.
 
فى ظل حالة الاستقطاب الحاد بين القوى الكبرى وتصاعد الخلافات الجيوسياسية، تضطلع الدول الإقليمية الرائدة حول العالم، ومن بينها مصر بطبيعة الحال، بدور محورى لتكون أعمدة الخيمة التى يُلقى على عاتقها نسج مظلة وأُطر تتجاوب مع تحديات العصر وتضع أُسسا لعلاقات مستقرة بين الدول. لتحقيق ذلك، نرى أن حجر الزاوية ومربط الفرس يكمنان فى تطبيق القواعد الدولية المتفق عليها دون تمييز أو محاباة.
فازدواجية المعايير ورمٌ استفحل فى المنظومة الدولية على مدى عقود ولمسناه عن قرب فى قضايا منطقتنا العربية، غير أن هذا الورم الخبيث استشرى لحدود غير مسبوقة مع العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة ليصيب عصب الضمير العالمى ويضع المنظومة الدولية المتعددة الأطراف برمتها على المحك. فعلى مدى عام من سفك دماء الأبرياء فى غزة الأبية، ضُرب بعرض الحائط قواعد القانون الدولى، والقانون الدولى الإنسانى، والقانون الدولى لحقوق الإنسان، وقرارات الشرعية الدولية، سواء الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة التى كثيرا ما مالت لمصلحة الحق والعدل، أو حتى قرارات مجلس الأمن المُقيد بتوازنات القوى الكبرى، أو فى الآونة الأخيرة قرارات محكمة العدل الدولية التى أضحت نبراسا فى ظُلمة حالكة من الصمت الدولى المخزى. ولا يمكن إلا أن نتساءل: كيف تستقيم منظومة دولية جامعة تنظر للأمور بمعيار أن «تلك قضية.. وتلك قضية»؟
أما العنصر الثانى الضرورى لنجاح عملية التطوير والإصلاح، فهو إدراك تحديات العصر وتحرك الأمم المتحدة صوب المستقبل. وكما صرح السكرتير العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بأنه «لا يمكن بناء مستقبل أحفادنا بمنظومة بُنيت لأجدادنا»، فالقوة الشابة التى تمثل معظم سكان الدول النامية لديها تطلعات جديدة وتواجه تحديات مستحدثة. وإلى جانب الأبعاد التقليدية للعمل الأممى من سلم وأمن وتنمية مستدامة وحقوق إنسان، أصبح لزاما على المنظومة الدولية المتعددة الأطراف أن تتناول قضايا التعاون الرقمى والأمن السيبرانى والتكنولوجيا والابتكار، والفضاء، وهى موضوعات فنية سياسية تسهم مصر باستمرار فى صياغة قواعدها الدولية.
على سبيل المثال لا الحصر، شاركت مصر بفعالية فى مفاوضات القمة العالمية لمجتمع المعلومات وجميع الآليات التى نتجت عنها، بالإضافة إلى تقديمها الدورى لقرار منع سباق التسلح فى الفضاء الخارجى بالجمعية العامة، مع رئاسة لفريق الخبراء ذى الصلة، ورئاستها الحالية للجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجى.
كذلك، أضحى تعزيز دور الشباب وتمكين المرأة فى الحوكمة الدولية ضرورة واحتياجا لا مجاملة، ولم يكن من المستغرب أن توكل العضوية العامة للأمم المتحدة لمصر بالاشتراك مع «جمهورية جويانا التعاونية» قيادة العملية التفاوضية لاستحداث مكتب ومنصب مبعوث الأمم المتحدة للشباب فى ظل الأولوية التى نوليها لقضايا الشباب فى مصر. وقد نجحت الدبلوماسية المصرية باقتدار فى حشد الإجماع الدولى ليتم إعلان تعيين أول مبعوث أممى للشباب فى الآونة الأخيرة، وسنعمل على تحقيق المزيد فى هذا المضمار.
فلا يستقيم ألا تمثل المنظومة عقلية معظم سكان كوكبنا من الشباب، وألا تهتم بشواغلهم، وتعمل لتحقيق تطلعاتهم وآمالهم فى مستقبل أفضل. ولا شك فى أن مصر بذلك صاحبة مبادرة تصُب مباشرة فى اتجاه تعزيز أهداف «قمة المستقبل» المتوقع أن ينتج عنها «إعلان الأجيال المقبلة»، الذى ينبغى أن يكون الشباب الحالى محوره بصفتهم أجيال المستقبل.
تأتى الركيزة الثالثة والأخيرة لعملية الإصلاح فى ربط الخطاب السياسى بأفعال ومردود اقتصادى وتنموى مباشر. فبدون أثر يلمسه الإنسان حول العالم فى حياته اليومية، ستظل النقاشات الأممية خاوية المحتوى قاصرة التأثير فى عالم ينبض بالحركة السريعة والمصالح الاقتصادية المتقاطعة، والاستثمارات المتشعبة العابرة للقارات. لذا، نؤمن بأهمية جلب رءوس الأموال للحوار على الطاولة، فالكل له دوره، ولا تستطيع الحكومات فى عالم اليوم التحرك من دون القطاع الخاص والمجتمع المدنى. فى المقابل، لن يستطيع القطاع الخاص النمو والمنافسة إلا فى بيئة دولية آمنة وقواعد حوكمة واضحة تصوغها وتتفق عليها الحكومات فى الإطار الأممى.
لإحداث هذا التناغم، علينا أولا معالجة الاختلال الهيكلى فى البنية الاقتصادية والمالية الدولية. لذلك، كانت مصر فى طليعة الدول التى اصطفت خلف سكرتير عام الأمم المتحدة فى دعوته الشجاعة وموقفه الأخلاقى المنادى بضرورة إصلاح مؤسسات التمويل الدولية، داعمة أيضا لمطالبات الاتحاد الإفريقى فى هذا الصدد، وهى الدعوة التى تتوافق مع النداء الذى خرج من شرم الشيخ لدى استضافة مصر لمؤتمر تغير المناخ فى نوفمبر 2022 الذى دعا لإصلاح تلك المؤسسات لجعلها أكثر قدرة على تلبية أولويات الدول النامية.
 
لقد آن الأوان لإصلاح جذرى لتصبح منظمات «بريتون وودز» أكثر عدلا وإنصافا، ومن الأهمية بمكان أن تصبح تلك المؤسسات أكثر قدرة على توفير المنح والقروض الميسرة التى لا يترتب عليها زيادة فى مديونية الدول النامية، علمًا بأن هذا الأمر بحاجة لمعالجة دولية جادة فى ظل ارتفاع تكاليف إقراض الدول النامية قياسا بنظيرتها المتقدمة، فضلا عن مخاطر اندلاع أزمة عالمية للديون بين الدول النامية. 
فى سياق متصل، فإننا نرفض تهرّب البعض من مبدأ المسئولية المشتركة المتباينة الأعباء. فالأزمات العالمية لن تُحل بصورة انتقائية فى إطار فردى أو إقليمى، كما أنها لن تُحل بفرض الالتزامات نفسها على الدول المتقدمة والنامية على حد سواء فى مواجهة تحديات اقتصادية ومناخية لم تكن الأخيرة السبب فيها, فى الوقت الذى تأتى فيه فى صدارة من يعانى تبعاتها.
 
إن المنظومة عليها إتاحة هامش وحيز مالى لتحمل الصدمات الخارجية، وتحقيق المتطلبات الرئيسية للشعوب النامية، والوفاء بتعهدات أجندة التنمية المستدامة 2030، ومؤتمرات الدول أطراف اتفاقية تغير المناخ، مع ضرورة ألا يأتى تمويل العمل المناخى على حساب تمويل جهود التنمية وفى القلب منها مكافحة الفقر. وليس تنفيذ نتائج مؤتمر الأطراف الـ27 فى شرم الشيخ بعيدا عن ذلك، بما أرسته القمة لأول مرة من تناول موضوعات تمويل الخسائر والأضرار للدول النامية.
فمن غير المعقول أن تضيف المنظومة لأعباء الدول، وتضع الخيارات الاقتصادية فى معادلة صفرية، تجعل تبعات التعامل مع الأزمة فى بعض الأحيان أكثر اتساعا من الأزمة الأساسية نفسها، ولا يمكن أن نظل ندور فى دائرة مفرغة تجعل الثرى أكثر ثراءً والفقير أشد فقرا، فلابد من تساوى الفرص وتقاسم الثروة بعدالة كضمانة للاستقرار الدولى، الأمر الذى يصب فى مصلحة الدول المتقدمة قبل الدول النامية.
 
يجب كذلك إثارة قضايا استقرت أعواما فى النقاشات الأممية من دون حلول ناجعة حتى الآن، وعلى رأسها إصلاح مجلس الأمن، ونزع السلاح النووى، لا سيما إنشاء المنطقة الخالية من الأسلحة النووية فى الشرق الأوسط، وتعزيز آليات حفظ وبناء السلام لتحقق هدفها الأصلى، وهو تسوية النزاعات تسوية مستدامة. فمن دون مواجهة هذه الموضوعات التى أعيت الجماعة الدولية لعقود، سيستمر الجسد الأممى فى العيش على مسكنات وقتية لا تُجدى فى معالجة أصل الداء.
إن تصاعد وتيرة العمليات الإنسانية الأممية فى مناطق النزاعات حول العالم، وإن كان مدفوعا بنية صادقة، فإنه دلالة على نواقص بنية السلم والأمن الدوليين للدرجة التى أصبحنا معها نتعامل مع النزاعات كأمر مُسلم به كما صرح جوتيريش عندما قال إن «الأمم المتحدة تحولت لجليسة أطفال للنزاعات».
 
وقد تحركت مصر فى تفاعل نشط مع «الأجندة الجديدة للسلام» استنادا لخبراتنا الطويلة فى الإطارين الأممى والإفريقى لتطوير بنية السلم والأمن وجعلها أكثر فعالية وقدرة لمخاطبة جذور النزاعات والتحرك استباقيا فى عالم يموج بالصراعات والتهديدات غير النمطية، ونقوم على الصعيد الإفريقى باستضافة المركز الإفريقى لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد الصراعات، ونحظى بعضوية مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقى، إضافة إلى دورنا كإحدى الدول الكبرى المساهمة بقوات فى عمليات حفظ السلام الأممية.
 
إجمــالا، يمكن لـ «قمة المستقبل» أن تشكل علامة فارقة فى سبيل تطوير وتحديث الحوكمة العالمية، لا سيما المنظومة الأممية. وما بين الآفاق الرحبة للتغير وتحديات الواقع المركّبة، يبقى العنصر المؤثر هو توافر الإرادة السياسية الدولية. فما الفائدة من استحداث وثائق جديدة إن لم يتم تنفيذها؟ وهل ستكون الجماعة الدولية على قدر المسئولية لتحمل «قمة مستقبل» الخير للعالم؟ وكيف ننتزع من براثن الواقع الصعب المستقبل المُشرق؟
تلك كانت أسئلة مطروحة للتداول والنقاش، لكن المؤكد أن الدبلوماسية المصرية ستظل على عهدها، تقوم بدورها المؤثر فى أعلى المحافل الأممية، متموضعة فى قلب النقاشات، على اختلافاتها وتشعباتها، لنسج التوافقات والتفاهمات، حفاظا على مصالحنا الوطنية، وتحقيقا لتطلعات الشعوب العربية والإفريقية والنامية فى غد أفضل يحمل الأمن والكرامة والرفاهية للجميع.
 
ختامــًا:
بما أننى أسهم بهذا الرأى فى منبر بحثى أكاديمى مصرى مرموق، أؤكد أن هذا التضافر الفكرى فى مجال العلاقات المتعددة الأطراف هو نشاط مثمر متواصل، مُذكرا بالملحق الخاص الذى أصدرته دورية «السياسة الدولية» فى أبريل ٢٠١٨ لتدون به إسهام عضوية مصر فى مجلس الأمن عامى ٢٠١٦/٢٠١٧. فى هذا السياق، أود أن أبرز أن اضطلاع مصر بدورها الريادى التقليدى، وتحملها لمسئوليتها المعهودة، هو مسئولية تشاركية لا بد أن يسهم فيها بالشكل المناسب الأكاديميون والباحثون من مصر، وأيضا من العالم العربى والقارة الإفريقية، خاصة مع اتساع المساحة التى أصبحت متاحة للمشاركات فى أنشطة الأمم المتحدة، بحيث يتحقق التناغم فى الدفاع عن مصالح الدول النامية وإعلاء وجهة نظر الجنوب العالمى.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. بدر عبدالعاطى

    د. بدر عبدالعاطى

    وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج